تَعتري الشركات العديد من الأزمات، لعلَّ أهمها وأشدُّها وطأةً يكمن في تراكم دُيُونها، الأمر الذي يترتب عليه تسابُق الدَّائنين على الأصول وتزاحُمهم بمّا لا يحقِّق عدالة قسمة الأصول ممَّا يؤدِّي في نهاية المطاف إلى عرقلة فرصة تصحيح وضعها وبالتَّالي خسارة نشاطه.
ومن أجل تمكين المدين المفلس أو المتعثِّر أو الذي يتوقَّع أن يعاني من اضطراب أوضاعه الماليَّة من إعادة تنظيم أوضاعه ومعاودة نشاطه والمساهمة في دعم الاقتصاد الوطنّي وتنميته؛ جاء نظام الإفلاس الصَادر بالمرسوم الملكيّ رقم (م/50) بتاريخ 28/5/1439
ولتحقيق الهدف المذكور آنفًا؛ مكَّنَ نظام الإفلاس المدين أو المحكمة- بحسب الأحوال- من تعليق المطالبات، الَّذي يعني به: تعليق الحقِّ في اتِّخاذ، أو استكمال أيِّ إجراءٍ، أو تصرُّف، أو دعوى تجاهَ المِدين أو أصوله أو الضامن لدَين المِدين، خلال فترة محدَّدة وفقًا لأحكام النظام.
ومن ثَمَّ، يترتب على إصدار قرار تعليق المطالبات- في أيِّ إجراء من إجراءات الإفلاس السَّبعة- وقف سائر الدَعَاوى الَّتي يقوم بها كُلُّ دائن على حِدة ضدَّ المدين؛ وبالتَّالي تصبح المحكمة المختصَّة (المحكمة التِّجاريَّة) هي وحدها صاحبة الاختصاص في الفصل في سائر المسائل المتعلِّقة بالمِدين.
للوهلة الأولى، يبدو من حصر الاختصاص في يَد المحكمة سهولة حسم كافة ما يتعلّق بالمِدين، بيد أنَّ الصُّعوبة تبلغ أوجها إذا وجَّهنا دفَّة حديثنا صوب مسألة تقاطع إجراءات الإفلاس والتحكيم.
فإذا اتَّفق طرفان على إحالة ما قد ينشأ بينهما من نزاع إلى التحكيم، ثُمَّ لجأ أحدهم إلى البدء في إجراءات الإفلاس لمآرب وقائيّة أو علاجيّة، فماذا سيحدث لاتِّفاق التحكيم؟ هل ستقف إجراءات الإفلاس حائلًا دون ممارسة هيئة التحكيم لاختصاصها أم ستستمرُّ على الرَّغم من أن إفلاس أحد أطراف التحكيم حقيقة واقعة لا يمكن غضَّ الطَّرف عنها وتجاهلها؟
وخلال هذا المقال- بمشيئة الله- سنحاول توضيح التَّساؤل المطروح،
وبمطالعة الأنظمة ذات الصِّلة، فإنه لا يوجد أيُّ نصّ نظاميّ يمكن الاعتصام به للقول الفصل في هذه المسألة، كما أنَّ هذه المسألة محل جدل كبير بين الأوساط الفقهية والقضائية على حدّ سواء؛ لهذا سوف نُعرَّج على استقراء وتحليل بعض الأحكام من النُّصوص الحاليَّة وتعضيدها بالحجج المؤيِّدة.
بادئ ذي بدء نعتقد بضرورة التفرقة بين أمرين، وهما:
- أولًا: إذا تمَّ اللُّجوء إلى التحكيم قبل بدء إجراءات الإفلاس: في هذه الحالة، لا يجب أنْ يطُول تعليق المطالبات في المسألة المُحتكم فيها، وآية ذلك لدينا أنه إذا كان في مكنة الأطراف تجرِيد القضاء من اختصاصه إذا تمَّ الاتفاق على التحكيم أثناء سير إحدى الدَعَاوى (الفقرة الأُولى من المادَّة التَّاسعة والمادَّة الثَّانية عشرة من نظام التحكيم) فإنَّه ومن باب أولى يُسلب اختصاصه في الموضوع المعرُوض على التحكيم ابتداءً. إضافة إلى أن المادَّة الحادية والأربعين من نظام التحكيم عدَّدت حالات انقضاء إجراءات التحكيم والَّتي لم تشتمل على البدء في إجراءات الإفلاس، فلا مانع من سماع الدعاوى، ولكن يوقف تنفيذ الحكم حتى ينتهي الإجراء
- ثانيًا: إذا تمَّ اللُّجوء إلى التحكيم بعد بدء إجراءات الإفلاس: ونعتقد بضرورة التَّمييز بين فرضين، هما:
- إذا كان المدين هو المُحتكم؛ أيّ كان مدَّعيًا في دعوى التحكيم: وفي هذا الفرض لا مَنْدُوحة من استمراريّة التحكيم؛ لأنَّ المدين -لا المحكمة- أحرى في سلك السَّبيل الَّذي يُحقِّق له مصالحه المشروعة بشرط توافر حُسن النِّيّة، أمَّا وقد تبيَّن سوء نيَّته؛ فالوقف هو الجزاء وذلك معاملةً له بنقيض مقصده. إذن، فمناط عمل المحكمة في هذا الفرض -في تقديري- هو التَّحقُّق من شرط حسن النِّيّة.
- إذا كان المدين هو المُحتكم ضدَّه؛ أي كان مدَّعيًا عليه: ونرى في هذه الحالة أولوية وقف تنفيذ حكم التحكيم لحين الانتهاء من إجراءات الإفلاس، وهذه الأولوية تقتضي بلا شك وقف الإجراءات إعمالًا لمبدأ وقف الدعاوى والإجراءات الانفرادية، والذي يُعتبر وفقا لبعض الفقه وأحكام القضاء؛ من المبادئ المتعلقة بالنظام العام الوطني والدولي على حد سواء
يتفرَّع عن ذلك إشكاليَّة أخرى تتجسَّد في الصِّفة المزدوجة للمدين، بمعنى أن يكون المِدين مدَّعيًا في دعوى تحكيم وفي الوقت ذاته مدَّعيًا عليه في أخرى. وفي هذه الحالة فالأمر متروك للمحكمة تُقدِّره بحسب ظروف كُلّ دعوى على حدَّة.
وما قدَّمناه لِلتَّوّ يتعلق بفرض انفراد المملكة العربيَّة السُّعوديَّة بمسألة التحكيم والإفلاس، بعبارة أخرى أن تكون إجراءات الإفلاس قد وقعت في بلد واحد. أمَّا إذا كان التحكيم في بلد والإفلاس في بلد آخر؛ فإنَّ ذلك يُثير عدَّة مسائل يتبلور أهمُّها في: مسألة عالميَّة أو إقليميَّة حكم الإفلاس، بمعنى هل حكم الإفلاس يشمل كافَّة أموال المفلس حتَّى وأن كانت موجودةً خارج الدَّولة أم أنَّه يقتصر على دولة الحكم فحسب؟ كما يثير ذلك مسألة القانون واجب التَّطبيق الَّذي يختلف باختلاف نظام وتّشريع الدُّول كلٌ على حدَّة.
وكما ذكرنا آنفا أن هناك غموض في حالة اللُّجوء إلى التحكيم بعد بدء إجراءات الإفلاس في النظام الوطني؛ مما يجعل حُكم القضاة مختلف في هذه الحالة، وهذا المقال هو محاولة لتسليط الضوء على بعض الإشكالات الدقيقة، لذلك نأمل من المنظم وضع قواعد قانونيه للتنسيق بين إجراءات التحكيم وإجراءات الافلاس، فهي ضرورة يفرضها الوضع المالي الحالي وما تمر به الكيانات الاقتصادية من ازمات بحيث لا تصبح مسألة افلاس احد المحتكمين عائقًا امام الخصومة التحكيمية، مما يعود بالأثر السلبي على فكرة التحكيم التي أحد أركانها سرعة وسهولة إجراءاته
وفي الختام، يُعدّ التحكيم وسيلة قائمة على العدالة قوامها الحرِّيّة والإرادة الفرديَّة والِّتي ارتضاها الأفراد ليحتكموا إليها حال حدوث نِزَاع بينهما سواءً أكان ذلك سابقًا أو لاحقًا على قيام النِزَاع، فينبغي على كل من القضاء والتحكيم محاولة تحقيق التَّوازن؛ لأنَّهما في النِّهاية يرميا إلى العدالة الِّتي تختلف باختلاف الظُّروف والوقائع المعروضة في كلّ دعوى على حدة.
سامي بن محمد الهرفي