المنشآت العائلية: الميثاق العائلي وتسوية النزاعات
بينما تساهم المنشآت العائلية بشكل كبير في التنمية الاقتصادية الوطنية، تعد النزاعات العائلية هاجساَ يهدد استقرارها واستدامتها خاصة إذا لم يكن لدى المنشأة أو العائلة خطة وقائية لمواجهة هذا التحدي منذ البداية بدلاً من الاضطرار للجوء إلى الوسائل القانونية العلاجية لحلها، ويرجع ذلك إلى غياب مفهوم الدور الوقائي للقانون عند كثير من أفراد المجتمع بشكل عام وأن دور المحامي أو المستشار القانوني هو من أجل علاج المشاكل والخروج من المآزق القانونية فقط. ولا شك أن هذا المفهوم؛ السائد مع الأسف؛ يكلف المنشأة الكثير من الوقت والجهد والمال.
بالنسبة للشركات العائلية، يعتبر الميثاق العائلي أحد أهم الممكنات النظامية التي أتاحها نظام الشركات الجديد والذي يمكن من خلاله صياغة قواعد منظمة للعلاقات بين أفراد العائلة وعلاقتهم بالشركة وتضمينها في النظام الأساسي للشركة وبالتالي إضفاء الصبغة الإلزامية التي من شأنها أن تكفل استقرار واستدامة المنشأة. من خلال هذا الميثاق يمكن تنظيم واحتواء أي اختلاف أو تباين في وجهات النظر بين أفراد العائلة لتبقى الشركة بعيداً عن الخلافات العائلية التي يمكن أن تتأثر بها.
ولضمان فاعلية الميثاق العائلي كأداة وقائية، يمكن الإفادة من المواثيق العائلية الاسترشادية التي وضعتها جهات ذات علاقة بهذا الشأن ومن أهمها الدليل الاسترشادي للميثاق العائلي لدى وزارة التجارة والتي تقوم بتحديثه حالياً ليتوافق مع نظام الشركات الجديد. وبالرغم من أهمية هذه الأدلة الاسترشادية إلا أنه من الضروري ألا يتم الاكتفاء بمجرد قوالب جاهزة أو نسخ مكررة لمواثيق أخرى وأن يتم الاستثمار في صياغة الميثاق صياغة دقيقة وملائمة لاحتياجات العائلة والمنشأة على حد سواء. ذلك أن الغموض في صياغة قواعد الميثاق العائلي يقلل من كفاءته وفاعليته في تحقيق أغراضه بل وقد يؤدي إلى نتيجة عكسية خاصة عندما يحدث النزاع وتحصل المشاحنة ويستأثر كل فرد بحقه دون النظر للمصلحة العليا المتمثلة في استدامة المنشأة وصدق تعالى (وأحضرت الأنفس الشح)
في هذا المقال سأتطرق إلى ثلاثة جوانب مهمة عند صياغة الميثاق العائلي للحد من النزاعات العائلية وتقليل أثرها على المنشأة.
الأول هو ضرورة حصر كل ما من شأنه إثارة خلاف في المستقبل سواءً في إدارة الشركة أو ملكيتها أو المشاكل العائلية التي قد تنعكس على أداء أو مستقبل الشركة، ومن ثم وضع قواعد وآليات واضحة لحسم ما قد يترتب على ذلك من نزاعات. فمن المهم على سبيل المثال أن يتضمن الميثاق هيكلة واضحة للمجلس العائلي، ضوابط ملكية أفراد العائلة، سرية المعلومات، قواعد منافسة أعمال الشركة، ضوابط التعاملات التجارية والتعاقدات مع أفراد العائلة، آلية التمثيل والإدارة وتوظيف أفراد العائلة لدى الشركة، سياسات الرواتب والمكافآت لأفراد العائلة وكذلك سياسة توزيع الأرباح وغيرها من الأمور الجوهرية التي قد تثير خلافات مستقبلية. كما ينبغي مراجعة وتحديث مثل هذه الأمور بشكل دوري والتأكد من شمول الميثاق لكل ما هو ضروري لحسم أي خلاف مستقبلي.
الجانب الثاني هو أن الميثاق العائلي هو فرصة لتضمين أعراف العائلة وبروتوكولاتها ضمن وثيقة قانونية مكتوبة وواجبة التنفيذ لضمان العمل بهذه الأعراف واستدامتها لدى أجيال العائلة المتعاقبة بها مع قدر ملائم من المرونة للتعديل والتغيير. ذلك أن لدى كثير من العوائل قواعد اجتماعية عرفية وبروتوكولات غير مكتوبة كان لها فاعلية في إدارة شؤون العائلة وحل النزاعات والخلافات التي تحدث بين أفرادها. وبالتالي يمكن الاستفادة من هذا الإرث الاجتماعي للعائلة لصياغة أعرافها كقواعد ترتضيها العائلة في ضبط العلاقة بين أفرادها والمنشأة. فبالإضافة إلى تضمين الأعراف العائلية فيما يتعلق بتشكيل المجلس العائلي وتمثيل الشركة، تعتبر الأعراف العائلية المرتبطة بآلية التوفيق في حل خلافاتها واختيار الموفق سواءً من العائلة أو خارجها ممن لهم قبول لدى أفرادها من الأمور الجوهرية والمحورية في الصياغة والتي يمكن أن تكون درعاً حصيناً لحماية المنشأة من أثر الخلافات العائلية.
ثالثاً فيما يجب التركيز عليه عند صياغة الميثاق العائلي هو آلية تسوية النزاعات عند حدوثها. فالنزاع قد يحصل مهما حاولنا استقصاء مواطنه وبالتالي لابد من وضع آلية مناسبة لحله. وفي هذا السياق يمكن تضمين المصالحة والتحكيم كبدائل للقضاء لتسوية المنازعات لما تتميز به من مرونة وسرية توائم متطلبات تسوية الخلافات العائلية. وليس الحديث هنا عن ميزات التحكيم والوساطة كعلاج لحل هذه النزاعات؛ بل عن ضرورة اتخاذ إجراء وقائي يتمثل في صياغة آلية واضحة للجوء لهذه البدائل عند النزاع بشكل يضمن تحقيق الغرض، فلا ضمانة لمجرد النص على اللجوء للتحكيم أو المصالحة عند حصول النزاع دون الاتفاق على آلية واضحة للإلزام باللجوء لهذه الوسائل وطريقة إدارتها، كما أنه في المقابل قد يصعب اللجوء للقضاء مع وجود شرط التحكيم أو المصالحة، وبالتالي فقد تصل النزاعات إلى مرحلة لا يمكن حلها بالقضاء ولا بالوسائل البديلة.
من هذا المنطلق يجب النص على التراتبية المطلوبة لحل النزاع بين التوافق ضمن إطار أفراد العائلة أو خارجها، واللجوء للمصالحة ثم التحكيم. من الضروري أيضاً أن يتم الاتفاق على كيفية اختيار الموفق أو المصلح أو المحكم، كما يمكن اختيارهم مسبقاً قبل حصول النزاع حسماً لأي جدال قد يحصل بعد حدوث النزاع يتعلق بحياديتهم، وفي هذه الحالة قد يكون اختيار مصلح أو محكم من خارج العائلة ولكنه على اطلاع وثيق بطبيعة العلاقة بين أفراد الأسرة وتعقيداتها وله قبول بين أفرادها خياراَ ملائماً يسهل من عملية التسوية.
من المهم أيضاً الأخذ في الاعتبار بعض المصالح المترتبة على الاتفاق على إحالة النزاع عند حدوثه لمركز تحكيمي محدد أو مركز مصالحة معتمد من قبل وزارة العدل. حيث يتم الاتفاق مسبقاً على الاحتكام إلى قواعد تضمن بدء وسير عملية التسوية بحيادية خاصة في حالة عدم تجاوب أحد أطراف النزاع، كما أن أحكام التحكيم واتفاقات التسوية الصادرة من هذه المراكز لها حجية النفاذ لدى محكمة التنفيذ.
د. صالح بن عبدالرحمن العامر
مركز الأحساء للتحكيم التجاري