تسوية نزاعات الشركات الناشئة

عند التخطيط للبدء في الشركات الناشئة يبذل رواد الأعمال قصارى جهدهم في التفكير في كافة الجوانب الرئيسية والتفاصيل الدقيقة التي تحيط بهذا المشروع والحلول المتاحة لتخطي أي عقبة قد تعترضه، إلا أن أحد الجوانب المهمة التي قد يتم إغفالها أو التقصير في الحديث عنها هو موضوع تسوية النزاعات التي قد تحصل مستقبلاً بين ذوي العلاقة كالخلافات بين الشركاء أو مع المستثمرين أو الآخرين المتعاقدين مع الشركة. ولعل السبب في ذلك أنه عند بداية الانخراط في علاقة تعاقدية يستحضر الأطراف الجوانب الإيجابية ويظهرون كل ما لديهم من حماس وعزم لإنجاح هذه العلاقة وبالتالي فإن النزاع قد يكون في تلك اللحظة أمراً مستبعداً خاصة وأن الأطراف قد أظهروا قدراً من المرونة لتجاوز العقبات التي واجهوها للوصول إلى هذه المرحلة.

بعد الدخول في العلاقة التعاقدية يجد الأطراف أنفسهم أمام مجموعة من القرارات المهمة وأحياناً المصيرية للشركة والتي قد تتباين فيها وجهات النظر بين الأطراف، لذا فإن التعامل مع هذا الاختلاف أمر في غاية الأهمية. تأكيداً لذلك نجد نظام الشركات قد أسس آلية محددة بين الشركاء لإدارة وحوكمة اتخاذ القرارات المتعلقة بالشركة كالآليات المنصوص عليها فيما يتعلق باجتماعات وقرارات الجمعيات العمومية ومجالس الإدارة، لكن الخلافات قد تكون أكبر من أن تحتويها مثل هذه الأدوات وتتحول هذه الخلافات واستمرارها إلى عقبة تعيق انطلاق الشركة أو خطر يهدد وجودها، وبالتالي فلا بد من التفكير في الوسائل المتاحة لتسوية الخلافات عندما تصل لهذه المرحلة وحلها في أسرع وقت، ذلك أن التمادي وتأجيل التسوية قد يفاقم المشكلة ويعظم من خطرها على الشركة، وليست الشركات الناشئة بمنأى عن ذلك بل قد تكون أكثر من غيرها من الشركات عرضة لمثل هذه الخلافات خاصة عندما تصل هذه الشركات لمراحل مفصلية في حياتها، والأمثلة كثيرة على مثل هذه النزاعات في الشركات الناشئة.

أحد أهم وسائل تسوية مثل هذه الخلافات هي التسوية الودية بين الطرفين والتي يقومان من خلالها بالتواصل وتبادل وجهات النظر. هذه الطريقة قد تكون مجدية لفهم أسباب الخلاف في بداياته ومحاولة وأده قبل تفاقمه، ولذلك ينبغي عند الرغبة في اللجوء لهذه الآلية والإلزام بها عند حصول الخلاف النص عليها في بند تسوية المنازعات في العقود، ولكن ينبغي التنبه إلى ضرورة تقييدها بفترة زمنية محددة حتى لا تؤول هذه الوسيلة إلى أداة للمماطلة وتضييع الحقوق.

تأتي الوساطة بعد ذلك بصفتها أداة ودية لتسوية الخلافات بين الطرفين والتي يتدخل فيها طرف ثالث لمحاولة حل المشكلة، ولا شك أن اللجوء لهذه الأداة في الشركات الناشئة لها أهميتها في محاولة الإبقاء على الصفة الودية للنزاع وعدم تفاقمه ودخول الشركاء في خلافات قد تعيق استغلالها لفرص نمو الشركة، كما أن الوساطة تتميز بأنها وسيلة اقتصادية لحل النزاعات وهو أمر قد يكون جوهرياً للشركات الناشئة، وللإفادة القصوى من عملية الوساطة فإنه من المهم اختيار الوسيط المحايد والذي يتمتع بقدر من الثقة لدى الطرفين والحفاظ على خصوصية العلاقة وسرية المداولات، كما أن اختيار الوسيط الذي يتمتع بخبرة في موضوع المنازعة يسهم في وساطة فاعلة ويمكنه أن يلفت النظر إلى جوانب مهمة قد يغفلها الطرفان، بل يمكن استثمار الوساطة لتكون أشبه بعملية دراسة جدوى للمنازعة في حال استمرارها ومحاولة تسويتها عن طريق القضاء أو التحكيم. تجدر الإشارة إلى أنه عند اللجوء لمركز مصالحة معتمد من قبل وزارة العدل فإن اتفاق المصالحة يصطبغ بالصفة الإلزامية ويصبح سنداً تنفيذياً يحق لكلا الطرفين اللجوء فيه لمحكمة التنفيذ مباشرة لتنفيذ بنود المصالحة المتفق عليها.

في حال لم تنفع الطرق الودية لتسوية النزاع فالخيار المتاح أمام الطرفين هو استصدار حكم ملزم لقطع النزاع. قد يكون القضاء خياراً يلجأ له الطرفان في هذه المرحلة ولكنه ليس بالضرورة هو السبيل الوحيد إذ قد يكون التحكيم أكثر مناسبة لتسوية نزاعات الشركات الناشئة، فبالإضافة لإلزامية حكم التحكيم ونفاذه قضاءً؛ فهو يتمتع بقدر عالي من السرية التي تمثل أولوية للشركاء للحفاظ على خصوصية العلاقة بينهم وتقليل أثر الخلاف على الشركة، كما أن المرونة والسرعة التي توفرها إجراءات التحكيم تتناسب مع طبيعة وديناميكية الشركات الناشئة والعلاقة بين الشركاء فيها، علاوة على ذلك يتيح التحكيم للأطراف اختيار محكمين متخصصين وخبراء في موضوع النزاع والذي قد يتطلب خبرات دقيقة وتخصصية ولا يخفى أهمية ذلك في نزاعات الشركات الناشئة خاصة تلك ذات الأغراض التقنية أو التي تمارس أنشطة جديدة.

ينبغي التنويه إلى أنه عند حصول النزاع دون اتفاق مسبق على اللجوء لهذه الآليات فإنه من الصعب أمام الشركاء المتنازعين الاتفاق على الطريقة المثلى للتسوية، لذلك فمن الضروري أن تتضمن العقود بين الشركاء أنفسهم أو مع غيرهم بند تسوية النزاعات وأن تتم صياغته بطريقة مناسبة وفق التراتبية التي يرغب بها الأطراف، عند ذلك يكون الاحتكام للآليات المتفق عليها ملزماً للطرفين ولا يجوز إغفال الوسيلة التي تم الاتفاق على الاحتكام لها دون موافقة الطرفين، فعلى سبيل المثال لا يحق لأحد الأطراف اللجوء للقضاء مع وجود شرط التحكيم أو الوساطة المسبقة وحينئذ تقوم المحكمة برد الدعوى إذا دفع الطرف الآخر بوجود هذا الشرط، وهو ما يعد ضمانة للالتزام بما تم الاتفاق عليها من آليات لتسوية النزاع بين الطرفين. من الأمور الجديرة بالذكر أنه من الممكن إدراج أحد بنود تسوية النزاعات النموذجية التي تتبناها مراكز التحكيم والتي بموجبها يلتزم الأطراف باللجوء لهذه المراكز لإدارة عملية التسوية وفقاً للقواعد الإجرائية المعتمدة لدى هذه المراكز، وهو ما يعد ضمانة لاستمرارية وحيادية عملية التسوية واختصاراً للوقت والجهد في تسوية النزاع.

شارك الخبر